منذ أسابيع سافرت إلى لندن مع طيران الإمارات ، هذه الناقلة العملاقة التي أصبحت طائراتها تشبه فنادق الخمس نجوم بالإضافة إلى أنها نادي ترفيهي و إجتماعي تلتقي فيه أشخاصاً من مختلف الجنسيات والهوايات ، سواءً خلال زيارتهم للدولة أو خلال إنتقالهم من قارة إلى أخرى .
على متن الطائرة كان يجلس في المقعد المجاور لي شخص ذو ملامح أوروبية حييته ، فرد علي بالمثل ، بعد الإقلاع سألني من أين أنت ؟؟ فأجبته من الإمارات ومن مدينة دبي فرد مستغرباً : لماذا لا تلبس لباسكم التقليدي ، قلت : عند سفرنا إلى الخارج نلبس هذه الملابس التي أعتقد أنها ليست محددة لجنسية أو بلد معين ، فهز رأسه مندهشاً، و إذا به يطيل النظر إليّ كأن جوابي لم يقنعه ، فأعطيته جوازي ليتأكد ، عندما رأى صورتي قال : الشكل يختلف قليلاً بلباسكم التقليدي ، هل تسمح لي بقرائة بياناتك ؟؟ فأنا أعرف قليلاً من اللغة العربية ، و الفارسية والتركية وبعض اللغات الأوروبية و أسافر إلى هذه الدول كثيراً و بالذات الدول العربية ، ثم تابع ، هذه أول مرة أزور الإمارات و مدينة دبي ولن تكون الأخيرة ، أتمنى الرجوع إليها مرات ومرات ، فهي مدينة جميلة وفريدة تستقبلك بالحفاوة وحسن الضيافة ، فنادقها رائعة ، تأسرك شواطئها ومساحاتها الخضراء ولا تمل من مراكزها التجارية ، كونت في فترة قصيرة مجموعة من الأصدقاء من مختلف الجنسيات وشاهدت القليل منكم داخل المدينة باللباس التقليدي ، ربما لأن الوقت الذي يخرج فيه السائح في الإمارات لا يصادف وقت خروج المواطنين . على كلٍ دبي تعطي انطباعاً حضارياً جيداً عن العرب و نموذج يُفتَخر به . فسألته : يبدو من لهجتك أنك أمريكي ، من أية ولاية أنت وماذا تعمل ؟؟ أنا أستاذ جامعي وذكر لي اسم المدينة ومجال تخصصه ، لم أفهم جيداً ماذا يعني ، سألته فرد ، هو مزيجٌ من علم النفس (Psychology) وعلم الإنسان و الطبائع البشرية (Anthropology) و فيه من علم الفراسة عند العرب ، وكما هو معروف هذه العلوم فروعها و أقسامها متعددة ، وتخصصي هو التغير السلوكي و الإنفعالات النفسية لدى الإنسان.
إن البشرية تتكون من مختلف الأجناس و الألوان ، الأبيض و الأسود ، بعضهم شعره أسود و الآخر أصفر ، منهم القصير والطويل ، والنحيف والبدين ، هذا من خلق الله ، ومنهم النشيط والكسول ، والإيجابي و السلبي ، وهناك المتعلم والجاهل والغني و الفقير والمغرور و المتكبر و المتواضع و غيرها الكثير وهذه طبائع مكتسبة أو موروثة .
فتكوين الشخصية يبدأ من الصغر ، فالطفل منذ بداية عمره يتأثر بوالديه غالباً ، و يتقمص شخصية أحدهما ، وغيره يكون مستقلاً حيث يبدأ بقيادة زملائه متأثراً بشخصية عامة كالأبطال التاريخية أو الأسطورية ، ويلعب الطموح و التشجيع و التوجيه الأسري دوراً في صقل شخصية الطفل إلى أن يصبح شاباً قوياً أو مهزوزاً، كريماً أو بخيلاً ، مغروراً أو متواضعاً، وقد يصبح قائداً يأمر أو تابعاً يطيع ، و الأمثلة في التاريخ القديم و المعاصر كثيرة عن أشخاص وصلوا إلى قيادة دول و أصبحوا زعماء بلا منازع ، فمنهم من كان متواضعاً محباً للسلام كغاندي ، ومانديلا ، ومنهم من كان مغروراً محباً للغطرسة ، كهتلر و موسولوني و ستالين وإلى حد ما جورج بوش الإبن ، وعند العرب كما تعرف ، صدام حسين و القذافي .
لكن على كل التفاصيل كثيرة حول هذا العلم لن يسعنا الوقت لشرحها كلها. ويتبين لي أن عندك أسئلة كثيرة أتمنى الإجابة عليها قبل أن نصل. قلت نعم لدي : ماذا عن الأشخاص الذين تتغير طبائعهم وهم كبار و المفروض أنه مع التقدم في العمر يصبح الإنسان أكثر نضجاً و خبرة ، و تتسم قراراته بالتأني ، لكن تجد أشخاصاً ينقلب سلوكهم إلى النقيض تماماً ، مثلاً أشخاص كانوا متدينين ثم إنقلبوا شيوعيين ثم أصبحوا يدافعون عن الرأسمالية ، أي بمعنى اصبحوا انتهازيين ، و آخرون كانوا كثيري الإنتقاد ولا تعجبهم تصرفات البعض فأصبحوا يمدحون و يتقربون ممن كانوا يطعنون فيهم مع أن شيئاً لم يتغير لكن تغير سلوكهم ، فكيف تصف مثل هؤلاء حسب تحليلك العلمي؟؟
قال : هؤلاء في الأصل كما أصبحوا ، وكلما إحتكوا بأصدقاء مختلفي التوجهات يتغير سلوكهم ، لكن مع مرور الزمن تظهر طبيعتهم الحقيقية ، فهم وصوليون أكثر مما هم انتهازيون.
أما المجموعة الثانية فهؤلاء نجدهم في كل المجتمعات ، يطعنون في أشخاص لا يمكنهم التقرب منهم أو مصادقتهم لكن عندما تتاح لهم الفرصة للتقرب ينقلبون إلى التملق و المدح فطبعهم النفاق لكنه لا يظهر باعتبار أن من يعرفهم لا يرى الوجه الذي كانوا عليه إلى أن يصدمه التغيير ، وهذه هي الطبيعة البشرية لا تنفك تنقلب و تتغير حسب المبادئ ، و الأهواء و المصالح منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها و نحمده على أنه خلقنا مختلفون.
وتطرقنا إلى أمور مختلفة ، أتمنى أن أشاركها معكم في وقفة أخرى.
عند الوصول إلى لندن شكرت الرجل على أمل لقاء آخر.