لا يحتاج أحدٌ لسبب لزيارتها أو حتى الكتابة عنها ، فلقد تكاد تكون المدينة الوحيدة التي لا تحلو السياحة دون الذهاب إليها أو التوقف ولو لفترة بها ، هي لندن الوجهة المفضلة لأغلب السياح من مختلف الجنسيات بحدائقها التي لا مثيل لها و مراكز تسوقها الراقية و فنادقها الفاخرة .
لندن التي كَتَبْتُ عنها عدة مرات ولا تنفك تجذبني مرة بعد أخرى ، لندن التي تفتح ذراعيها كل سنة لإستقبال زوارها خاصة من دول الخليج الباحثين عن الجو البارد المعتدل وعن الترفيه والإستجمام ، لندن مدينة اللقائات و التعارف والتقارب ، ففي فصل الصيف غالباً ما تجد العائلات الخليجية والنساء بملابسهن التقليدية في كل مكان حتى يهيئ إليك أن عددهن أكثر من أصحاب البلد أو من أية جنسيات أخرى . لندن المدينة التي تلبي كل الإحتياجات و تفاجئك كل مرة بلمسات فنية بسيطة هنا وهناك لكنها تزيدها رونقاً و جمالاً ، مع ذلك فجوهرها لا يتغير خاصة شكلها التاريخي وهذا ما يجذب السائحين أكثر إليها .
فالإنجليز متمسكون بما هو قائم فيها من مباني و حدائق لأنهم لا يميلون إلى التغيير حتى لو أراد أحد من أصحاب الأملاك مثلاً تغيير شئ في ممتلكاته فلا يُسْمح له بذلك تحت أي ظرف ، فالطابع التاريخي المميز للمدينة له مكانة و أهمية عند الإنجليز و الملاحظ أنه في الفترة الأخيرة بدأت تظهر بعض العقارات والمباني الحديثة لكن في الضواحي فقط.
أمضيت فيها هذه السنة كالعادة أوقاتاً ممتعة مع الأهل و إلتقيت مجموعة من الأصدقاء حيث غالباً لا تسمح ظروف كل منا باللقاء في الوطن ، وكذلك بعض الإخوة الخليجين والعرب ، فلندن كانت ومازالت الملاذ المريح من ضغوطات العمل ، ومركزاً لتبادل الآراء و الإجتماع بالصحبة الطيبة كل حسب ذوقه وإهتماماته ، فالمقاهي المنتشرة مجلس للبعض ، و المراكز التجارية مملوئة بالعائلات ، حتى لو أن مثل هذه المراكز و أحدث منها و أكبر حجماً منتشرة في بلادهم ، وحتى البضائع قد تكون متوفرة و بأرخص الأسعار ، لكنه التغيير الذي يبحث عنه كل من يقرر السفر خارج بلاده .
أما المكان الوحيد الذي لابد و أن يجد فيه كل زائر لندن راحة و متنفساً ، هي الحدائق التي تجمع الكبار و الصغار طوال اليوم .
و أهم ما يميز لندن عاصمة الثقافة و الفن متاحفها التي تصل إلى حوالي 200 متحفاً وكذلك مسارحها و مكتباتها التي تحتوي على كتب تاريخية نادرة ، و يقدر دخل متاحفها السنوي بالمليارات. لكني أعتقد بأن أغلب السائحين العرب لا يميلون إلى التردد إلى مثل هذه الأماكن التي لا تكفي زيارة واحدة للإستمتاع والإستفادة منها. ولأن لكل منا هواياته و أهوائه ، فمن الصعب الحكم عليهم بعدم الإكتراث بهذه المعالم التاريخية و الثقافية ربما لهم أولويات أخرى ، لكن لاشك أن لهذه المعالم مرتادوها من كل أنحاء العالم ومن ضمنهم قلة من العرب . وهذه السنة كذلك أخذني صديق في جولة سياحية ثقافية بامتياز . بداية كانت لمتحفThe Wallace الذي يقع وسط لندن وتعرض فيه أرقى معروضات الفن والديكور من القرن الخامس عشر و حتى القرن التاسع عشر مع مجموعة من المعروضات الفرنسية النادرة تعود إلى القرن الثامن عشر و التي لا وجود لها حتى في فرنسا . تأسس المتحف سنة 1897 و إفتـُتِحَ للعموم سنة 1900 ويعتبر المتحف الوحيد في العالم الذي يحتوي على 5,500 قطعة فنية بما فيها قطع من عصر النهضة موزعة على 25 صالة عرض .
اللوحات الفنية المعروضة فيه لأشهر الرساميين الأوروبيين في ذلك العصر أمثال ، رمبرانت ، وفراجونارد و هالز وجانسبورو ، وموريللو .
ومايميز المتحف كذلك هو تلك المعروضات الفنية من سيراميك و موبيليا فرنسية التي لا تقدر بثمن ولا يسعك الوقت للإستمتاع بمشاهدتها كلها خلال زيارة واحدة . لأنك تقف عاجزاً أمام إبداع و عبقرية الفنانين في ذلك العصر . وانبهرت بصور بحجم الكف معبرة و جميلة و كأنها صور فوتوغرافية ولا أبالغ إن قلت بأن حتى آلة التصوير لا يمكن أن تبرزها بهذا الشكل المبدع .
ورغم أننا نعيش في رفاهية و رغد في العصر الحالي ، عصر التكنولوجيا والتطور السريع إلا أن الكثيرين لا زالوا يتحسرون ومنبهرون بذلك الزمن الذي إجتهد فيه مثل هؤلاء المبدعين و بأدوات بسيطة لترك فن راقي وعظيم تتحدث عنه وتتوارث الأجيال .
أما اليوم فغالباً ما نرى فناً هابطاً أو تجارياً رغم توفير كل الأدوات الممكنة!!!
في اليوم التالي زرنا المكتبة البريطانية و تعتبر أكبر و أهم مراكز البحث المكتبية في العالم ، لا تفوقها في محتوياتها التي تتعدى 14 مليون كتاب سوى مكتبة الكونجرس ، إلى جانب ذلك تضم محتويات مختلفة من مطبوعات و مخطوطات ومجلات وجرائد و تسجيلات من كل أنحاء العالم .
وتبلغ الميزانية المرصودة للمكتبة حوالي 140 مليون جنيه إسترليني ، لكن محتوياتها التي تعتبر كنزاً لا يُقَدر بثمن ، تُثري زائريها و تعرفهم بتاريخ وإسهامات علماء كأنهم لا زالوا يعيشون بيننا . وقد لفت نظري خلال زيارتنا لمعرض مؤقت في المكتبة مخطوطة لأقدم إنجيل كتب بخط اليد . ولمحبي كرة القدم ورقة كُتِبت من قِبل مجموعة من مُؤَسِسي و لاعبي كرة القدم عن أسُس اللعِب و أسلوب الأداء من عدة نقاط تعود للقرن التاسع عشر .
أخيراً لاشك أن زيارة مثل هذه الأماكن لا يُضاهيها شيئ ، خاصة إذا كانت مع صديق يُشْعِرك بأنه لازالت هناك حيوية ثقافية وفكر نشط في مجتمعنا و بأننا لازلنا بخير …
شكرا أبو أحمد .