استمرار للموضوع السابق “عصر الحريات” وانطلاقاً من السؤال المطروح في نهايته “فمتى يا ترى تفهم باقي الحكومات العربية مطالب شعوبها؟” أبدأ اليوم بما يجري في ليبيا وملك ملوك أفريقيا، وفي اليمن السعيد الذي غابت السعادة عن شعبه فتظاهر واعتصم. في عهد مضى من القرن الماضي كانت كلما تقوم مجموعة من الضباط بانقلاب عسكري يطلق على ذلك ثورة وتقوم الشعوب بالوقوف إلى جانبهم وتفخر بإنجازاتهم، ظناً منها أن الوضع سيكون أحسن وأنها سوف تنال حقوقها وتحقق حلمها بالحرية والديمقراطية والعيش الكريم، لكن مع مرور الزمن أدركت الشعوب أن هذه الشعارات كانت زائفة وتم استغلالها للوصول إلى الكرسي والبقاء عليه ليس لأطول فترة ممكنة فحسب بل للأبد وتوريثه من بعد، ومع قيام الثورات الشعبية الحقيقية هذه الأيام اتضحت الصورة أكثر، وتأكد أن حماة مصالح الدول وخدمة شعوبها، كانوا يحمون مصالحهم وكانوا وراء نهب ثروات دولهم وشعوبهم ووراء تهريب أموال طائلة إلى الخارج لحسابهم وحساب عائلاتهم في الوقت الذي تعاني فيه شعوبهم ظروف اقتصادية صعبة ودولهم غارقة في الديون بسبب سياساتهم، والأموال التي هربوها والتي تعد بالمليارات حتى الآن وقد يكشف عن أكثر، كانت من الممكن أن تحل مشاكل دولهم وتنتشل شعوبهم من الفقر والبطالة، فانفجرت ثورة شباب تونس وأيقظت الشعوب العربية، وتحرك بعدها شباب مصر، ثم تتالت الإعتصامات والمظاهرات في دول أخرى وقامت ثورات وقد تستمر إلى أن تحقق الشعوب مطالبها بالحرية والعدالة والعيش الكريم أو إلى أن يتعظ قادتهم ويأخذوا العبرة من تونس ومصر.
صبرت الشعوب العربية وتحملت تبعات تشبث هذه الحكومات بالسلطة، لكن أحداً لم يكن يتصور أن يصل حجم الفساد إلى هذه الدرجة، لكن بعد ثورتي شباب تونس ومصر، وفضح المفسدين في الحكومتين وبدأ محاسبتهم، كـَشَف المستور وبانت حقيقة الأموال المهربة إلى الخارج وما نشر عن ثروات أفراد في هذه الحكومات وعلى رأسها كبار القادة وعائلاتهم فاقت تصور أي أحد، وظهر جلياً سبب التمسك بكرسي الحكم والسلطة، مع أن البعض منهم كان يدعي أن حياته عادية كباقي أفراد الشعب ولو كان الأمر كذلك لكانت الشعوب العربية الأكثر سعادة والأعلى دخلاً في العالم، وقد يكون الأسوأ قادم بالنسبة لتجاوزاتهم وسرقاتهم خاصة مع التقارير التي سوف تكشفها المراكز المالية الدولية وتنشرها وسائل الإعلام الغربية وحتى العربية التي من المفروض أنها تحررت واستقلت من ضغط السلطة ومن التستر على أفعالها ومخالفاتها، والتي قد تخضع هؤلاء إلى المسائلة القانونية والمحاكمة العلنية خاصة في الدول التي ثارت على حكوماتها وبدأت بتحقيق أهداف ثورتها.
إن المتمسكين بكرسي الحكم إلى الآن في الدول التي ثارت شعوبها، حتماً ينظرون إلى مخاطر تركهم الكرسي وخائفون من أن يكشف أمرهم والذي بدأ فعلاً رغم معاندتهم خاصة تهريب أموال الشعب إلى الخارج بأسمهم وبأسم عائلاتهم وإلا ما هو السر وراء التشبث بالكرسي؟؟ وقد وصل الأمر إلى أحدهم بالتهديد بالقتال إلى آخر قطرة من الدم وبكل تأكيد ليس بدمه و إنما بدم غيره، وهنا تنكشف حقيقة أخرى أمَرَّ وهي أن هؤلاء القادة كانوا يصرفون البلايين من خزانة الدولة لتسليح بلدانهم للدفاع عنها ضد عدو وهمي حيث اتضح أن ألد أعدائهم هي شعوبهم وهذا التسليح المتطور كان لغرض محاربتها والقضاء عليها إذا تجرأت وانقلبت عليهم وحتماً كانوا يتوقعون أن تثور عليهم في يوم من الأيام بسبب قهرهم لها، مع أنه عند مجيئهم إلى الحكم كانوا يعيبون على من سبقوهم البقاء في الحكم مدة طويلة والتوريث، وحالياً نشاهد أولادهم يهددون ويتوعدون وكأنهم ولاة أمور أو يتكلمون عن ملكهم الخاص، وليس عن شعب خلقه الله بإرادة وكفلت له كل القوانين العيش بكرامة، وأحدهم يأمر علناً الشعب الإستماع لابنه وما يبديه من أفكار لتصليح أمور الدولة مع أن ابنه من المفروض أن لا صفة شرعية له، ومن خَرَّبَ أمور الدولة لكي يأتي ابنه ويصلحها؟؟ هكذا يفكر هؤلاء وكأنهم يعيشون خارج المكان والزمان، أبهذه العقلية تدار الدول والحكومات في القرن الواحد والعشرين؟؟
ي الفترة الأخيرة ركزت كل الصحف والمجلات ووسائل الإعلام الغربية على ما يجري في الوطن العربي، وعلق أحد الكتاب الغربيين على هذه الأحداث باعتبارها الأبرز، بأن الشعوب العربية إذا رضت بمثل هؤلاء حكاماً فهي لا تستحق حتى أن نطلق عليها شعوباً متخلفة بل قطعان من الغنم وعلى الحكومات الغربية الرجوع مرة أخرى لاستعمارها والسيطرة عليها من جديد. ومقابل ذلك كانت هناك آراء ترددت في أكثر من موقع إعلامي غربي تشيد “بالبوعزيزي” لأنه أيقظ الشعوب العربية من سباتها العميق. أما مراسلوا المجلات المشهورة مثل نيوزويك والتايم والاكونمست فقد اجتهدوا في تحليل ثورات الشباب في تونس ومصر وليبيا واليمن والتي حسب رأيهم اندلعت نتيجة توافر وسائل الإتصال والتواصل في هذا القرن في مجال الإنترنت والإعلام المرئي والمقروء خاصة وأن نسبة مواطني الدول العربية الذي لا تتجاوز أعمارهم 30 سنة حوالي 65% من عدد السكان وهم على معرفة تامة بكل وسائل التكنولوجيا الحديثة ومن خلالها يطلعون على ما يجري حولهم في العالم وأصبحوا يعرفون مالهم وما عليهم، والبعض منهم يتسائل لماذا الشعوب الأخرى تختار حكوماتها كل أربع سنوات ولا يحق لنا ذلك؟؟ ويرى بعض المحللين في هذه الوسائل الإعلامية أنه إذا لم تقم الحكومات العربية بالتغيير والإصلاح وإعطاء الفرصة للشباب بشكل يتماشى مع هذا العصر والنهضة التي ترافقه فأنهم سوف يضطرون لذلك، فالعالم أصبح مفتوحاً على بعضه البعض والحدث الذي لم يكن الشباب يراه أو يسمعه قبل خمسة سنوات، أصبح الآن يُنقل إليهم مباشرة، فلا يمكن لهؤلاء القادة التغاضي عن ذلك فوسائل التكنولوجيا متوفرة في كل مكان للوصول إلى كل شيء حتى الممنوع أو المحجوب في دولهم، فعلى القادة أن يتيحوا لهؤلاء الشباب فرصة التعبير عن آراءهم بحرية، والرد عليهم بالاستماع لهم ومعرفة مطالبهم، أمَّا إذا كان الرد بالعنف واستخدام القوة فعليهم أن لا يتوقعوا أن تحبهم شعوبهم وتشعر بالإمتنان لهم. ويجب أن تـُأخذ العبرة مما حدث في تونس ومصر وما يحدث في ليبيا واليمن حيث أن خنق الأصوات قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه لأنهم المستقبل والعنف أو التجاهل قد يكون مردوده عكسياً.
في الحياة وبعدها، لا يبقى للإنسان إلا ما فعله، وعليه أن يدرك ذلك قبل فوات الأوان، فالدول المتحضرة لا تعطي فرصة للحكم لأي شخص مهما كانت عبقريته، أكثر من فترتين ولسنوات محدودة، فهل ما يحدث حالياً هو بداية نهضة وثورة عربية حقيقية؟؟ نعم، فالواضح أن الشباب لن يتوقفوا حتى تتحقق مطالبهم كاملة والتي تتضمن حرية الرأي للجميع، واستقلال الإعلام والقضاء وحرية تشكيل الأحزاب والمؤسسات الحقوقية والنقابية، وتشكيل هيئات مستقلة للرقابة على الاموال العامة وعلى مؤسسات الدولة، حتى لا يترك للمفسدين مجال للعب والتلاعب، وتحديد مدة الرئاسة ولفترتين فقط. فليلتف الجميع حول وطنه وعروبته و وحدته، فمِنهُم تـُسْتـَمد القوة، ولندخل هذا القرن من أوسع أبوابه، ولتكن لنا بصمة في عالم متحضر متقدم بالعلم والتكنولوجيا، التي بسبب إحدى أدواتها اندلعت ثورة الشعوب العربية في القرن الواحد والعشرين، فالأنظمة التي سقطت لم تسقط قضاءً وقدراً أو بالإنقلابات العسكرية، وإنما سقطت بالفيسبوك وبالثورة المعلوماتية. ولنتفائل بعهد جديد يُظهر القدرات والإمكانيات العربية الحقيقية لترفع من شأن أوطانها وتحتل الدول العربية مكاناً في الصفوف الأمامية ويصبح الشعب العربي ملك ملوك العالم.