خلال زيارتي الأخيرة إلى روما، إلتقيت بصديق إيطالي من أصل عربي، دعاني إلى جلسة في إحدى المقاهي مع مجموعة من أصدقائه أغلبهم من أصول عربية، دار الحديث وكعادة العرب المغتربين عن هموم الوطن الأم، وعن المشاكل اليومية التي يواجهونها في وطنهم الجديد، بدأ أحدهم بالقول: نحن ضائعون بين هنا وهناك وللأسف بعضنا نقل هذا الشعور إلى أبنائه الذين لا يعرفون إلا هذا الوطن ولا يتحدثون إلا لغته، إلا أنهم هنا بالرغم من أننا مواطنون ونحمل جوازات هذه الدولة. ينظرون إلينا بأننا عرب ويعايروننا بالجهل والتخلف إزاء ما يحدث من مشاكل في وطننا العربي وكأننا جزء منها أو سبب فيها وهذا يعني أن مصيبتنا نحن في الخارج أكبر من العرب داخل أوطانهم، خاصة في الفترة الأخيرة عندما تحركت بعض الشعوب العربية فيما سمي بالربيع العربي، شاركناهم الفرحة وكنا فخورين بالإنتماء لهذا الربيع الذي أملنا أن يحرر الشعوب التي عاشت لسنوات طويلة محاصرة بالقهر والفقر وشظف العيش ويتيح لها أبسط مقومات الحياة من أمن وأمان وحرية، إلى أن إنقلب الحال إلى الأسوأ. رد شخص آخر وقال: لا يمكننا أن نجزم بأن الحال إنقلب إلى الأسوأ، فقد يكون تسرعاً أوسوء تقدير لأنه لا يمكنك أن تعيش الربيع دون العلاج من شتاء القهر والقتل والإستغلال، وخريف المعاناة والتمسك بالحكم وعدم إعطاء الفرص وكبت الحريات وصيفٍ قاسٍ لم تعرف فيه الشعوب أبسط حقوقها من لقمة العيش إلى الرعاية الصحية. لا يمكننا أن نتجاوز كل هذا الذي قادنا إليه حكم فاسد، ظالم، سيطر عليه مجموعة جاؤوا وهم يواعدون الشعوب بحياة كريمة لكنهم داسوا على كل شيء حتى على كرامة شعوبهم مقابل البقاء على الكرسي. قاطعه آخر: لا تبالغوا كثيراً فنحن أحسن بكثير، وأنا شخصياً أفضل هنا، ولو كنت في وطني الأم لحسبوني على هذه الطائفة أو تلك، أوليس عار على الجميع ما يجري في العراق ولبنان وسوريا وفي أغلب الدول العربية من أجل الكرسي ؟؟ أولم نكتفي بالتفرج على التمثيلية الذي يديرها المتمسكون بالحكم لنهب ثروات شعوبهم؟؟ والأيام كشفت لنا أن ما سرقه بعضهم وجمعوه في بنوك غربية لم يستفيدوا منه، لاهم ولا أولادهم بل قد يكون من نصيب آخرين لا صلة لهم بهم بعد أن حرموا شعوبهم الإزدهار والتقدم بتلك الأموال، وحالياً يقال أن أكثر الدول فساداً هي العراق مع أنها من أغنى الدول، والغريب أن من جاؤوا الى الحكم بعد الحرب كانت حجتهم القضاء على الفساد والسرقات، والأيام القادمة قد تثبت لنا أن هؤلاء لن يكونوا أحسن ممن سبقوهم، لا أدري أهي لعنة حب المال والسلطة أم مرض الغرور والنرجسية الذي لا يصيب مع الأسف إلا أمثال هؤلاء!!!
سألتهم: هل تتابعون أخبار الوطن في وسائل الإعلام الأوربية أم العربية؟؟ أجابني أحدهم: كيف تريدنا أن نتابع الإعلام العربي وهو لا يعبر إلا عن المتمسكين بالسلطة؟؟ أين الرأي الآخر؟؟ أين إعطاء الفرص، هو مجرد واجهة للتعبير عن الرأي الواحد وتكميم باقي الآراء حتى لو كانت بعض هذه الوسائل كما يقال مملوكة لأفراد أو مجموعات، فإنهم لا يسمحون لهم إلا بإذاعة أو نشر ما يخدم مصالحهم ويتماشى مع منظومتهم. تابع آخر، أولم تلاحظ مؤخراً أن بعض وسائل الإعلام هي التي خلقت وتخلق الشقاق بين أبناء الوطن الواحد وقسمتهم إلى فئات ومذاهب مع أن الآباء والأجداد كانوا يعيشون الفرح والحزن معاً، ثم تابع صديقي: هذا هو حالنا هنا مؤخراً لا نجتمع إلا للحديث والنقاش حول مشاكل الوطن العربي التي من الواضح أنها تجمَّدت، ولا أحد يدري على ماذا قد تنتهي، حتى مع أصدقائنا الإيطاليين لا حديث لنا إلا هذا الموضوع وغالباً ما يعلقون، أنتم لا تستحقون هذا الوطن والأرض وثرواتها ومن الأحسن لكم الرجوع إلى عهد الاستعمار الأوربي كما تسمونه لكي تنعموا بحياة أفضل ومساواة للجميع.
قلت له: ألا تعتقد أن ما يجري في أوربا ليس أفضل منا؟؟
في إيطاليا مثلاً الفساد مستتب، ورئيس الوزراء السابق عليه قضايا، قال: هذا صحيح، الإختلاف السياسي قائم في كل وقت وفي كل مجتمع منذ بداية الخلق وهذا شيء طبيعي، لكن هذا لا يعني أنهم يستغلون الدين مثلاً لتحقيق أهدافهم أو الوصول إلى مبتغاهم بل هم يحترمون حرية الرأي ويتقبلون الرأي الآخر حتى لو كان ضد مصالحهم السياسية بعكس ما يحدث عندنا لا يرون ولا يسمعون إلا ما يبقيهم أطول فترة ، يقتلون ويعذبون ويدمرون كل من يقف في طريقهم كما فعل صدام والقذافي وغيرهم.
أما الفساد فهو منتشر في كل زمان ومكان، ولا يوجد مجتمع لا يعرفه، والفرق الوحيد هنا هو الحرية والرقابة الشعبية وكشف المفسدين وفضحهم ومن ثم محاكمتهم ومحاسبتهم، وهناك لصوص بقدر ما هناك شرفاء وفي النهاية من يكشفهم هي وسائل الإعلام التي تؤدي رسالتها بنزاهة وشفافية، وتحترم قرائها ومشاهديها، وتفضح كل من أخطأ, كما تفسح له المجال للدفاع عن نفسه، وليس كما يحدث عندنا فالحاكم هو السلطة التشريعية والتنفيذية ومالك الشعب والدولة ولا يفرق بين المال العام والخاص، يصرف كما يشاء، ولا تتم محسابته على ذلك حتى ولو ترك السلطة التي غالباً لا يتركها بإرادته وحتى لو مات فإنه يورثها كما حصل في سوريا. إن الربيع العربي هو نتاج شتاءات طويلة قاسية عانتها الشعوب العربية وتخبطت فيها بين أعاصير وعواصف لم ترحمها، فرضها عليها حكام لا همَّ لهم سوى كرسي الحكم والنهب.