لبنان الدولة الصغيرة بحجمها وعدد سكانها، الكبيرة بعزيمتها وإرادة شعبها، الدولة التي استطاعت أن تصبح مصدر إشعاع ثقافي وتنويري للشعوب العربية في الشرق الإسلامية والمسيحية على السواء، وتفوقت بذلك على كثير من الدول العربية التي رغم إمكانياتها لازالت شعوبها تحلم بالحرية وتتطلع إليها، بينما الشعب اللبناني يتنفسها رغم إختلاف فئاته بأفكارهم وتوجهاتهم السياسية وإنتمائهم الثقافي والديني والمذهبي ورغم محاولات عديدة من القريب قبل البعيد لزعزعة استقرارهم لكي لا ينقلوا عدوى الحرية والديمقراطية إلى باقي الدول العربية، ورغم كل ذلك إستطاع لبنان أن يحافظ على مكانته كنموذج للعيش المشترك في ظل الحريات الثقافية والمعتقدات الدينية والمذهبية وأن يكون الوعاء الآمن للكثير من العرب.
قبل أيام صرح رجب طيب أرودوغان، رئيس وزراء تركيا بأن الرئيس ساركوزي، رئيس فرنسا دعاه إلى مؤتمر دولي ينعقد في باريس حول الأزمة اللبنانية، وكـأن لبنان جزء من فرنسا، أو من أوروبا وليس دولة عربية حرة مستقلة تقع في الشرق الأوسط، وإن كانت تعيش أزمة سياسية فلتناقش ضمن الأسس والقواعد الدولية والتي من المفروض أن تتم داخل جامعة الدول العربية، البيت الحاضن للعرب كما يقال وليست فرنسا أو أوروبا أو أي مكان آخر، لكن السؤال هو لماذا دعوة رئيس وزراء تركيا وليس رئيس دولة عربية؟؟ لأن الدول العربية لا وزن ولا شأن لها عند أوروبا، ولأن الحكام العرب مشغولون بأمورهم الخاصة وشغلهم الشاغل كيفية الحفاظ على كراسيهم وقمع شعوبهم.
أما تركيا، فبعد أن تركت الرأي للشعب التركي الذي اختار بحرية وعن إقتناع الحزب والحكومة التي تقوده برئاسة رجب طيب أوردغان، استطاعت أن تحتل موقعاً خاصاً وأن تصبح قوة سياسية يعمل لها ألف حساب، ولابد من أن تشارك في أية مناقشة لأية أزمة في المنطقة.
وبالرجوع إلى موضوع لبنان يتضح أن الأزمة الحالية خلقتها وتخلقها آيادٍ خفية، لا تريد لهذه الدولة الإستقرار والتنمية، فمن يقرأ تصريحات رئيس الولايات المتحدة الأمريكية باراك أوباما قبل أيام عندما قال ما معناه أن إنسحاب حزب الله من الحكومة اللبنانية السابقة القصد من ورائه إفشال المحكمة الدولية، يتأكد من أن مثل هذه التصريحات تدل إما عن جهل أو عن تعمد إخفاء الحقيقة، لأن الانسحاب من الحكومة لم يكن بقرار من حزب الله بل من أحزاب المعارضة التي تتضمن كل القوى الوطنية من مسيحيين ومسلمين سنة وشيعة، وتم حسب الأسس الديمقراطية حتى لو كان بقيادة حزب الله وهذا شيء طبيعي وحق تكفله الديمقراطية في كل الدول التي تمارسها عندما يكون هناك اختلاف في الرأي بين الأحزاب التي تتألف منها الحكومة، لكن التصريح يوضح طبيعة المؤامرة الدولية على لبنان، وبالطبع وراء هذا التصريح قوى لها مصلحتها وعلى رأسها إسرائيل، التي لا تريد للبنان الاستقرار والسير على نهجه وأسلوب تعامله مع الكيان الصهيوني والتصدي له، بل يريده دولة متواطئة متخاذلة بغية الإستمرار في إحتلال الأراضي الفلسطينية، من هنا يتضح أن ما جرى ويجري في لبنان منذ سنين هو من صناعة قوى خارجية، بدءاً من قتل الشهيد رشيد كرامي عام 1987، وصولاً إلى مقتل الشهيد رفيق الحريري، وما المحكمة الدولية إلا تمثيلية من إخراج هذه القوى الخارجية. وإلاّ لماذا أنشأت هذه المحكمة أو لماذا سُميت بالمحكمة الدولية خاصة بعد مقتل الشهيد رفيق الحريري؟؟ ولماذا لا يتم التحقيق في القضية داخلياً؟ وأعتقد أن كل اللبنانيين متفقين على معرفة الحقيقة، ومن وراء قتل كل الشهداء من أفراد الشعب اللبناني والإعتداء على حرياته وإستقلاليته. ومع تقديري لدور الشهيد رفيق الحريري وما فعله من أجل لبنان، ومن خلال حديث معه عندما ألتقيته في بيروت وفي برشلونه، عرفت أنه رجل أعمال ناجح وهذا لاشك فيه، أما على المستوى السياسي فلا أعتقد أنه كان أقدر من رئيس الوزراء الأسبق الشهيد رشيد كرامي، فلماذا لم تُشَكل محكمة دولية أو التحقيق في مقتل الأخير كما تم في مقتل الشهيد رفيق الحريري؟؟ مع أنه ثبت بالدليل القاطع الفاعل الحقيقي والذي يخرج في وسائل الإعلام بشكل مستمر ليصرح بأن من قتل رفيق الحريري يريد التفرقة بين السنة والشيعة، وكأنه هو كان وراء قتل رئيس وزراء إسرائيل وليس رئيس وزراء لبناني سني من عائلة لبنانية عريقة لها مكانتها وتاريخها في لبنان، إن القضية أبعد من ذلك، فلقد حاولوا منذ البداية تضليل الرأي العام اللبناني وتشغيله بسوريا وخلق أزمة بينهما للدخول في معركة وحرب جانبية لنسيان معركة العرب الحقيقية مع الدولة الصهيونية، فلم يتمكنوا من إثبات التهمة على سوريا وحكومتها، فانتقلوا للعمل من الداخل ابتداءً من شن حرب على لبنان عام 2006 فلما انهزموا وانتصر عليهم حزب الله والشعب اللبناني الذي بقى متماسكاً بوحدته ومستمراً في بناء مجتمعه انتقلوا إلى مرحلة أخرى قد تكون بداية لخلق مشاكل جديدة للبنان واللبنانيين وذلك بإخراج تمثيلية “المحكمة الدولية” هذه المحكمة التي بكل تأكيد تأمر بأمر الغير لأنهم يريدون فعلاً تركيع لبنان مسيحيين ومسلمين سنة وشيعة وبمختلف فئاته، وتسييس القضية. فإذا كان لابد من إنشاء محكمة دولية، وما دامت دولية فلماذا لا تقام لكل القضايا الدولية؟؟ لماذا لا يتم التحقيق في كل الإغتيالات التي حصلت وتحصل في لبنان وفلسطين والعراق وأفغانستان؟؟ ولماذا لا يتم التحقيق في الهجوم على العراق وقتل وتشريد آلآف الأبرياء وتدمير دولتهم بحجة أنها تمتلك أسلحة الدمار الشامل؟؟ لماذا لا تُحاكم جورج بوش الذي صرح مؤخراً أنه قام بشن الحرب على العراق استناداً على أخبار ومعلومات كاذبة؟؟ فأين دور المحكمة الدولية؟ ولماذا لا تقوم هذه المحكمة بالتحقيق في شن الحرب على غزة ومحاكمة إسرائيل على قتل آلآف الأبرياء العزل بعدما ثبت عليها ذلك في تقرير غولد ستون؟؟ ولماذا لا تقوم هذه المحكمة بالتحقيق فيما يشن من حرب على أفغانستان وقتل آلآف الأبرياء الفقراء من أفغانيين وباكستانيين ومحاكمة من أمروا بشن هذه الحرب؟؟ ولماذا؟؟ ولماذا؟؟؟
رحمة الله على الشهيدين رفيق الحريري ورشيد كرامي ورحمة الله على جميع الشهداء اللبنانيين والعرب. ورحمة الله علينا جميعاً مما هو قادم.